فلان الى القمة
لقد امتهن فلان السياسة والدهاء منذ الصغر. فلأنه فقير فقد تعلم ان الحياة تتطلب ان يسايرها ليعيش، واكتسب مهارة اكتشاف اقصر الطرق واسهلها للوصول الى مبتغاه. لقد ايقن فلان منذ ان وعى على الدنيا ان الحياة لعبه تتطلب المهارة وان مبتغاها هو الكسب بغض النظر عن الوسيله ، وان المبادئ والاخلاق ما هي سوى وسائل للوصول الى المصلحة. فبالنسبة له، فلا معنى لأي قيمة اجتماعية او دينية اذا لم تقده الى مكسب مادي او اجتماعي. لقد اكتشف ايضا، منذ نعومة اظفاره، ان الحياة تتطلب المهادنه والتنازل عن بعض الكرامة لكي تستمر ويعيش فيها بأمان.
بدأ فلان حياته بائعا متجولا (صاحب بسطية) يبيع اي شيء حتى الممنوعات، وتعلم كيف يكون لسانه حلوا لجذب زبائنه. تعلم كيف يتكلم بسرعة بكلام كثير تجعل من يستمع يتوه بين عباراته وينتقي من ذلك الكلام ما يعجبه بحيث يخرج راضيا.
يمر الزبون ليتفقد البضاعة فيبدأ فلان بوجهه البشوش بالكلام اللطيف معه وبسؤاله من اي مكان يأتي ثم يقوم بمدحه ومدح عشيرته او قريته، ثم يقنعه انه بامكانه الاطلاع على البضاعة دون ان يشتري الى ان يصل به لشراء البضاعة؛ ليس لجودتها، وانما لاستمتاعه بالحديث الى فلان. اما منافسوه فقد استطاع فلان ان يروضهم وذلك اما بتقديم تنازلات لهم او بايهامهم بأنه يستطيع مساعدتهم بتحويل بعض الزبائن اليهم.
لقد استطاع فلان ان يبني شبكة علاقات عامة مع تجار المدينه وكسب ثقتهم مكنته من الحصول على مساعدتهم لفتح محل صغير في احد شوارع المدينة الرئيسية. لقد بدأ فلان مرحلة جديده وتفكيره مركز على شيء واحد كالعادة- مصلحته الخاصة وبناء ثروته.
تتطور علاقات فلان ويتعرف على احد المسؤولين الصغار في المدينه فيقوم باداء خدمات كثيرة له. فتارة يقوم بتوصيل البضاعة لبيته وتارة يساعده في الحصول على بضاعة بسعر قليل وتارة يساعده في اصلاح سيارة، وغير ذلك من الخدمات المجانية.
تتطور علاقة فلان مع ذلك المسؤول حتى اصبح يعتمد اعتمادا كبيرا عليه لانه وجد لديه ما يريحه دون ان يطلب منه فلان اي مقابل. يقوم المسؤول باخبار مسؤولين اخرين عن خدمات فلان فيعرفه عليهم وتتطور علاقاته معهم والذين يقوم فلان بأداء الخدمات لهم (ما دامو في مناصبهم) .
لقد اصبح محل واصل مؤلاً لمسؤولي المدينه لاعتمادهم عليه في تسهيل امور حياتهم وربما في تسهيل كسبهم للمال فهذا يريد شراء قطعة ارض تؤدي الى ربح سريع وذاك يريد شراء سيارة فارهة بسعر رخيص واخر يريد عمل “عزومة” دون ان يتكلف شيئا وآخر يريد عمل حفلة في صالة فاخرة دون ان يدفع مبلغا كبيرا واخر واخر وآخر، وفلان يقدم خدماته للجميع ولا يتوانى عن تسهيل امورهم او توفير الجو اللازم لاجتماعهم وامتاعهم بسهرة لطيفة او لعبة ورق. وفي المقابل فقد تمكن فلان من استثمار علاقته بالكبار لتوسيع تجارته وكسب الكثير من المال فكان ما يقدمه لأولئك المسؤولين زهيدا في مقابل ما يحصل عليه من مكاسب بسبب علاقته معهم.
وبالرغم من كل ذلك، فقد حافظ فلان على طريقة حياته البسيطة وبقائه خلف الكواليس فهو يعرف انه بسبب افتقاره للتعليم وافتقاره لعشيرة كبيرة تقف وراءه فإن الشهرة ليست في مصلحته اذ إن الظهور سيؤدي الى احجام المسؤولين عن التعامل معه و سيخلق له عداوات كثيرة مع عامة الناس.
تمر السنين وتتراكم ثروة فلان وتتشعب تجارته لتشمل بضاعة (غير اخلاقية) فهو لا يكترث لان ظهره (مسنود).
يصبح فلان احد اهم مراكز القوى الخفيه في المدينه و اهم “صانعي الالعاب” في ملعب الحياة و محجا لطالبي الخدمات من المسؤولين وطالبي الواسطة والمناصب من عامة الناس.
بعد عدة سنوات، يتخلى فلان عن مبدأه بعدم الظهور ويبدأ رحلته مع الشهرة فلقد تجمع لديه من القوة والسلطة والمال ما يؤهله للانطلاق والظهور كشخصية مهمة.
يأتيه جاره صباح يوم ليخبره انه تم تعيين محافظ جديد للمدينه فيطلب من عدد من المسؤولين المتقاعدين (الذين صنعوه) ان يسيروا خلفه لدى ذهابه لتهنئة المحافظ الجديد فهو الان اكثرهم وجاهه.
*******************************************
فلان نموذج شائع في المجتمعات التي ينتشر فيها الفساد الحكومي في الوقت الذي تفتقر فيه تلك المجتمعات الى سيادة القوانين التي تمنع امثاله من التطور السريع بسبب قربه من السلطة.
لقد ولى عهد الاختلاس من المال العام وجاء عهد زواج السلطة مع رأس المال غير النظيف؛ حيث يجد المسؤول فرصته في استغلال منصبه لتكوين ثروة بالتحالف مع رأس مال بنى ثروته ايضا بسبب قربه من السلطة وليس بسبب ابداع تجاري او صناعي.
ان هذا النوع من رأس المال القذر الذي يتراكم في سنوات قليلة بسبب الفساد انتج فئة من محدثي النعمة والذين اصبحوا يتقدمون الصفوف باموالهم و تسير خلفهم نخب المجتمع المتعلمة او التي ورثت النخبوية في صورة تدل على اختلال اجتماعي سيؤدي الى مزيد من التدهور في اخلاق المجتمع وفي مستوى معيشته لان هذا النوع من رأس المال لا تهمه قيم المجتمع ولا اخلاقه مثلما تهم رأس المال الحقيقي الذي يقود اقتصاد الدولة ويساهم في تطوير المجتمع ورفع مستواه كما هو الحال في الدول المتحضرة.